رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحل الطفل المعمّر

هناك في مسكنه- 10 شارع نجيب الريحاني بقلب القاهرة- الذي صار بحكم العادة مقصدا لكل الأحباب، كان لقائي الأول معه، وذلك قبل سنوات بعيدة لا أذكرها. وجدته من جيل أفتقده كثيرا اليوم، فهو من النوع الذي يخطفك بحسن استقباله وابتسامته الدائمة وذهنه المتيقظ، ثم يأسرك بحكاويه وقدرته المذهلة على السرد، لتقع بعد دقائق أسير محبته، ولتصبح واحدا من العائلة التي كوّنها بأبوته للجميع وقدرته على حسن تقديم أفراد العائلة بعضهم لبعض وبمهارته في نسج وشائج من الود والمحبة بين كل محبيه، في ظل ابتساماته التي يوزعها بعدالة على الجميع وحكاياته التي عاشها مع كبار النجوم وروحه المرحة ككل أولاد البلد، وأشعاره العميقة ولكنها بسيطة بساطة شعب مصر والتي جمعها في عدد من الكتب كان من بينها كتاب "يوميات طفل معمّر".

ذلك هو الصديق والأستاذ شوقي حجاب واحد من آخر عنقود متعددي المواهب في مصر، والذي كان من فرط تواضعه يقول لي دائما حين نتطرق لتعدد مواهبه: وأنا آجي فين من أبوصلاح؟، في إشارة إلى تعدد مواهب صديقه وأستاذه صلاح جاهين. أما هو فقد عرفته شاعرا غنائيا وكاتبا للأطفال ومخرجا وسيناريست وكاتبا مسرحيا وواحدا من جيل الآباء من معدي البرامج، فله برامج عديدة في الإذاعة المصرية، خاصة في إذاعة الشعب مع الراحل فاروق خورشيد والإذاعية آمال العناني، وفي إذاعة صوت العرب له ذكريات وحكايات مع كبار مذيعيها، خاصة من نجوم إدارة المنوعات.

حين توليت رئاسة إذاعة القاهرة في مبنى الشريفين تصدّر كل الداعمين، فقد كان أول ضيوفي في برنامج رمضاني قدمته حينها. وحين ذهبت لاصطحابه في سيارتي حكى لي حواديته في ذلك المبنى التاريخي للإذاعة المصرية قبل انتقالها إلى ماسبيرو، فحبّبني في مكان لم تكن لي علاقة به قبل أن أدفع إليه دفعا، وتواصلت معنا في الحلقة النجمة لبلبة والإعلامية نجوى إبراهيم محبة منهما له. و بعد أن انتهينا من الهواء حرص أن يدخل الاستديوهات، وعند مغادرتنا جلس أمام مدخل الإذاعة في شارع الشريفين ليستريح وليستمتع برائحة الماضي ويسترجع ذكريات عاشها في بداياته مع الحجر، وكذلك مع بشر ساندوه وآخرين حاولوا تهميشه، لكنه نجح بفضل موهبته الفطرية وربما لبشاشته مع الجميع في أن يصبح رقما مهما في معادلة الإبداع المصري.
كان عم شوقي سعيد دائما بكونه يحتفظ بروح وبراءة الأطفال وصفاء قلبهم ومحبتهم للجميع، ولهذا فقد استقطبته لتقديم ذكرياته مع 30 شخصية من النجوم الذين التقى بهم وتفاعل معهم في مسيرته الإبداعية، فكان برنامج "عطر الأحباب مع شوقي حجاب"، فقد كان يتحدث في كل حلقة عن واحد من الكبار الذين أحبهم بعد أن تعامل معهم وصادقهم أمثال: سعاد حسني، ثروت عكاشة، سيد حجاب، عمّار الشريعي، هاني شنودة، عبدالوهّاب البياتي، إيمان الطوخي، الأبنودي، ماجدة الرومي، تحية كاريوكا، وغيرهم من الشخصيات التي أثّرت فيه وفي مسيرته. 

ولم يكن هذا هو البرنامج الأول الذي أتعاون معه فيه فضلا على عشرات اللقاءات والحوارات التي اختصني بها، علاوة على جزء كبير من مكتبة أعماله التي كان حريصا أن تكون نسخة منها في مكتبتي الصوتية الخاصة، فقد سبق "عطر الأحباب" برنامج آخر تشرفت بأن اختصني بتقديمه له هو "مسدسات شوقي حجاب" وهو برنامج ألقى خلاله عددا غير قليل من أشعاره التي كان ينشرها صحفيا في صورة سداسيات "مسدسات " شعرية متناثرة الموضوعات، بعد ما كلفني بتبويبها وتجميعها في موضوعات لتكون مادة للحلقات معتمدا على ما أسماه ذائقتي الشعرية بحيث ضمت كل حلقة ستة مسدسات لها جميعها موضوع واحد، وكان تتخللها مسدسة شعرية مغناة شاركنا فيها باللحن والأداء: د. طارق عباس، مجدي الرشيدي، حسني عامر.

بادرت بزيارته في المستشفى بعد أن عرفت بتمكن المرض منه وهناك اتفقنا، مع السيدة حرمه، في حضرة عدد من الأصدقاء أن نحتفل بعيد ميلاده الذي يوافق 7 أغسطس في بيته في ليلة من ليالي الإبداع الفني التي كان يجيد تنظيمها وإدارتها دون تخطيط، وإنما بحكم المحبة حيث يلتف حوله عشرات الأحباب ويتسع المكان ليضم الجميع مبتهجا بالحالة وسعيدا بالأستاذ الطفل الذي جاوز السبعين. ولكن إرادة الله شاءت أن يكون الوداع الأخير يوم الأربعاء وهو ذات اليوم الذي يوافق يوم ميلاد رفيقة دربه نهلة ياسين والدة حبيبته وصديقته الجميلة سما. قلبي معكما ومع نديم حجاب ومع كل محبي عم شوقي الذين عرفتهم والذين ستظل تجمعني بهم محبة الطفل المعمر.