رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من حكايات الحملة الفرنسية

هل وهب المصريون أولادهم للفرنسيين؟، طرأ على هذا السؤال وأنا أقرأ كتاب "وصف مصر" الذي ترجمه إلى العربية الرجل المحترم زهير الشايب، والذي يعد واحدًا من مآثر مكتبة الأسرة.  
وسأحكي ما سجله واحد من علماء وضباط الحملة الفرنسية، المهندس. ب. ب. مارتان، وهو أحد قواد الحملة الذي طارد المماليك حتى محافظة الفيوم، ومنها الى المنيا عبر الصحراء الغربية.  
وفي 24 ديسمبر 1800 رحل المهندس. ب. ب. مارتان، وهو أحد ضباط الحملة الفرنسية من القاهرة إلى الفيوم ومعه معاونه كاريستي والمملوك سليمان الكاشف. 
وصل مارتان إلى قرية سنورس يوم 10 يناير، ومنها سلك طريقه إلى المنيا التي وصلها يوم 10 يناير 1801. 
وصف مارتان لحظة وصوله إلى "قرية المنيا" حيث يقيم الشيخ أبو صالح شيخ قبيلة السمالو، ووالد علي وعثمان، المرافقين للقائد الفرنسي مارتان منذ خروجه من الفيوم وأرسل أبوصالح ابنه الثالث أجروبه لملاقاة مارتان وتهنئته بسلامة الوصول.
نترك مارتان يتحدث بأسلوبه الخاص، وعاطفته التي نقلها لنا عن الفرنسية المترجم القدير زهير الشايب:
يقول مارتان يصف مشهد الاستقبال وفرح الشيخ أبوصالح بقدومه:
"جاء الشيخ المسن نفسه للقائنا، وما أن اقترب منا بنحو مائة خطوة حتى ترجل واتجه نحوي سائرا على قدميه. بادلته على الفور نفس تحيته، وتقدمنا كل منا باتجاه الآخر. وكل منا على رأس جماعته، وحتى هذه اللحظة كان الشيخ علي يضع نفسه رهن إشارتي، اللهم إلا في اللحظات التي تركته خلالها عند طرف بحيرة قارون، أما الآن فإنه لم يتبعني مطلقا، لقد منعه من ذلك الاحترام الذي يكنه لوالده، ولقد أبديت لأبيه من جانبي كل رضائي، لأنه أتاح لي ان أصحب رفيقا مثل ولده، وعربا مخلصين ذوي شهامة مثل أتباعه الشجعان من أبناء السمالو. ولاحظت أنه تأثر لإطرائي. ومنذ تلك اللحظة نشأت بيننا الثقة. 
امتطينا حصانينا من جديد وسار أبوصالح عن يميني. أما أبناؤه الثلاثة فقد ساروا من خلفنا، وشكلنا على هذا النحو ما يشبه الدخول المظفر إلى المنيا. كان الوقت قد بلغ العاشرة والربع وكان السكان جميعًا قد اصطفوا على جانبي طريقنا، وأسمعتنا النسوة زغاريدهن، تلك العلامة المعتادة عند حلول الأفراح الكبرى. 
يقطن أبوصالح بيتًا واسعًا بعض الشيء، وسرعان ما امتلأ بعدد كبير من المدعوين من كل الطبقات والعمار، وما أن جلسنا على الأرائك حتى قدم لي الشيخ صالح كل أبنائه، ولاحظت من بينهم طفلا لم يتجاوز التاسعة أو العاشرة من العمر، يكن له أبوه عاطفة خاصة، وكان هذا الصبي، وله وجه بالغ الجمال، يركب الخيل، ويستعمل الأسلحة بقدر ما قد بفعل أكثر البدو تمرسا، ويبدي من حيوية الطبع ما يسر والده بشكل بالغ، وقلت لأبي صالح أنني كنت قد لاحظت وأنا في السهل رشاقة ومهارة هذا الصبي ومظهره الحسن، دون أن أعرفه، وكيعقوب جديد، عبر لي أبوصالح، وقد هزه المديح الذي أنهال به على ولده المحبوب عن عرفانه بطريقة قد تبدو غير معقولة في تقاليدنا الفرنسية، ولكنها ولا شك نتيجة أفكارهم عن الرق، فقد قدم لي هذا الطفل قائلا إن بإمكاني أن أصطحبه معي، وأن ألحقه بخدمتي، وأجبته بأنني قد تأثرت للغاية بهذا العرض، وأخبرته أن ولده لن يكون مطلقا على خير ما يرام، بل إنه قد يتلف بلا جدال، لو أنه نشأ بين قوم غير قومه، وأن لي فضلا عن ذلك، في فرنسا، طفلا كطفلة، تعلقت به كل آمالي، وأنني معرفة مني بقدر صنيع السماء، سوف ألوم نفسي، إذا حرمت من خدمات رجل أود أن أنظر إليه منذ الآن وأن أحبه كوالدي، فرفع عينيه إلى السماء شاكرًا الله إذ جعله يجد في شخصي صديقا حقا. قد يدور في خلد البعض أنه قد لذ لي هنا أن أصور مشهدا من صنع الخيال، أو أنني على الأقل قد جهدت في أن أمنح هذا المشهد بعض مذاق الخيال، لكن الحقيقة، هي أنني أنقل بدقة ما قد حدث، وأنني أكاد أنقل أحاديثنا كلمة بكلمة كما وجدتها في مذكراتي، التي دونتها في مساء نفس اليوم... 
لاشك أن الشيخ أبوصالح، قد أقدم على تلك الخطوة، التي حاول فيها أن يهب ابنه للفرنسي مارتان، اعتقادا منه أن مارتان شخصية بالغة الخطورة والأهمية، وكان الرجل يقصد أن يحمل مارتان على إعادة ترميم الجسر وخزاناته.
كان الشيخ يريد أن يذكر مارتان بأنه يمكن الاعتماد عليه وعلى كل قبيلة السمالو في كل مكان يذهب إليه، وأنهم يمتثلون لأمره في الحياة والممات. 
ولكن هل كان الشيخ صالح فعلًا يريد أن يهب ابنه للفرنسي مارتان؟ 
حدثت واقعة أخري شبيهة، فقد حدثنا الشيخ رفاعة الطهطاوي عندما سافر إلى باريس في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" عن شاب شاهده في مدينة مارسليا.. كان من جملة المصريين الموجودين في فرنسا وقتها، وكان الشاب لابسا كالإفرنج، واسمه محمد، منطلق اللسان في غير اللغة العربية، ولا يعرف من اللسان العربي إلا اليسير، فسألته عن بلده فأجاب أنه من مدينة أسيوط، وأنه من أشرافها، وأن أباه يسمي السيد عبدالرحيم، وهو من أكابر هذه البلدة، وأمه تسمي مسعودة، أو قريبا من ذلك الاسم، وأنه اختطفه الفرنسية في حال صغره، ويقول إنه باق على إسلامه وأنه يعرف من الأمور الدينية، الله واحد، ومحمد رسول الله، والله الكريم فقط ومن العجائب أنني بعد كلامه توسمت فيه الخير، وكان على وجهه سمة أشراف أسيوط حقيقة، فإن صح كلامه كان من أولاد سيدي حريز بن سيدي أبي القاسم الطهطاوي، وأشراف طهطا من أولاد سيدي يحيي بن القطب الرباني سيدي أبي القاسم، وله ولد ثالث يسمي سيدي على البصير، ذريته أهل قرية شندويل، وشهرة أبي القاسم الطهطاوي لا تخفي على من يعرفه، وإن لم يذكره سيدي عبدالوهاب الشعراني في الطبقات، وكثير من الأشراف في البلاد العثمانية ينتهي نسبهم إلى سيدي حريز المتقدم.
فهل فعلا تنازل زعماء القبائل العربية الشهيرة عن أولادهم للفرنسيين، أم أن الأمر مجرد عملية اختطاف كما ذكر لنا رفاعة الطهطاوي؟ 
الأمر يحتاج إلى تدخل المؤرخين ليظهروا لنا الحقيقة.