رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ثقيف» ولعنة الخيانة

تتعجب من هذا المرور السريع الذى تعمده الكثير من المؤرخين والكتاب على الدور الذى لعبته «الطائف» فى مواجهة النبى، وتأمل موقف أهلها منه، صلى الله عليه وسلم، لما واجه العرب بعقيدة التوحيد، وبعدما انتصر على مشركى «قريش». فالكلام كله على مكة والمدينة، إلى درجة أن البعض ظن أن المقصود بالقريتين فى قوله تعالى: «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم»: مكة والمدينة، وحقيقة الأمر أن القريتين المعنيتين فى الآية هما مكة والطائف، ويتفق كل من «ابن كثير» و«الطبرى» على أن عظيم مكة هو «الوليد بن المغيرة»، فى حين يذهب الطبرى إلى أن عظيم الطائف المقصود فى الآية هو عروة بن مسعود الثقفى، ويحدده «ابن كثير» فى «أبومسعود عمرو بن عمرو الثقفى» سيد ثقيف.

كانت قبيلة «ثقيف» التى تعيش فى «الطائف» من وجهة نظر «الوليد» هى المعادل الموضوعى لقبيلة قريش، وكانت مدينة الطائف المركز الأكثر قدرة على منافسة مكة من وجهة نظر جميع كبارها وزعمائها، وبالتالى كان من الطبيعى أن يتصور «الوليد» أن تكون النبوة فى واحد من كبار القريتين، وهو ما لم يحدث، إذ أرادت مشيئة الله أن تجعل النبوة فى محمد، صلى الله عليه وسلم، يتيم بنى هاشم. لم يكن موقف «ثقيف» من محمد أقل عنفًا أو شراسة من موقف «قريش»، بل ربما كان أشد، لأن العداوة لم تكن مرتبطة برفض عقيدة الوحدانية التى ينادى بها النبى فقط، بل امتدت أيضًا إلى عداوة تاريخية كامنة ضد قريش ومكة. فقريش كانت تسيطر على العرب، وتحظى بين القبائل كلها بمكانة كبيرة، بسبب وجود البيت الحرام فى أرضها، وهى المكانة التى أحبت قبيلة ثقيف أن تنافسها، إذ كانت تجد فى نفسها هى الأخرى الجدارة بقيادة العرب، بحكم ما تمتعت به من قدرات اقتصادية هائلة، فإذا كانت مكة تمثل مركزًا تجاريًا مهمًا داخل جزيرة العرب، فقد مثلت الطائف مركزًا زراعيًا هائلًا، ومركزًا صناعيًا مهمًا خصوصًا فيما يتعلق بصناعة الجلود، بالإضافة إلى كونها مركزًا تجاريًا، الأمر الوحيد الذى لم تكن الطائف تستطيع منافسة مكة فيه هو وجود البيت الحرام فوق ترابها، بما يمنحه لمكة من مكانة أدبية. وهناك العديد من الأحداث التى تدلل على أن سادة ثقيف كانوا على عداء مبكر ضد مكة- قبل بعثة النبى- ويتربصون بقريش الدوائر، ويتحينون اللحظة التى يتم فيها تدمير المكانة الأدبية التى تحظى بها قريش. وقد بنوا فى الطائف بيتًا أطلقوا عليه اسم «اللات»، وكان «بيت اللات» هذا محل تعظيم وتبجيل من جانب أهل ثقيف، لكنه لم يستطع منافسة البيت الحرام فى مكة الذى كان محل تعظيم وتبجيل جميع العرب على اختلاف انتماءاتهم القبلية. وحين تحرك أبرهة الأشرم من اليمن- فى عام الفيل- قاصدًا مكة من أجل هدم البيت الحرام مر بالطائف وهو فى الطريق وتوقف عند «بيت اللات» وهمّ بهدمه، فخرج له رجال من ثقيف فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذى تريد- يعنون بيت اللات- إنما تريد البيت الذى بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم. سار مع أبرهة «أبورغال» الذى يلقب بـ«أبوثقيف»، لكنه مات فى الطريق وصار قبره رمزًا وشاهدًا على الخيانة من وجهة نظر العرب- وبخاصة المكيين- الذين باتوا يرجمونه بالحجارة كلما مروا به، وقد مر النبى وعدد من صحابته بهذا القبر ذات يوم فقال النبى: إن هذا قبر أبى رغال، وهو أبوثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التى أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصنًا من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه، فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن.

تحولت ثقيف إلى رمز للعنة الخيانة، وصار قبر أبى رغال شاهدًا على تاريخ هذه القبيلة مع العرب، حين خرج سيدها ليدل جيش الغازى أبرهة على البيت الحرام، حتى يقوم بهدمه وتدميره، لتخلو الساحة لثقيف، وليحل بيتها: «بيت اللات» محل البيت الحرام، لكن ذلك لم يحدث، كما تعلم، وحمى الله حماه وصان بيته، ودمر أبرهة وجنوده. ذهب أبرهة وبقيت لعنة الخيانة تطارد «ثقيف» والطائف، وقد جاءتهم لحظة مواتية بعد ما يزيد على ٤٠ عامًا من واقعة الفيل، حين بعث محمد بالحق نبيًا فأنكرت قريش دعوته، وطاردته ومن آمن به، وعذبت المستضعفين من أتباعه. تحرك النبى، صلى الله عليه وسلم، نحو الطائف أملًا فى أن يجد بين أهلها من يصدق دعوته ويحتضنها ويحمى صاحبها حتى يستطيع تبليغ رسالة الله. لحظتها كان النبى يعيش محنة كبرى، ارتبطت بوفاة زوجته خديجة، رضى الله عنها، ووفاة عمه «أبو طالب»، فنالته قريش هو ومن آمن به بأذى كبير، لم تجرؤ عليه، حينما كان عمه على قيد الحياة.

يقول «ابن كثير»: خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى فخرج إليهم وحده، وعمد إلى نفر من ثقيف- هم سادة ثقيف وأشرافهم- وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل، ومسعود وحبيب بنو عمرو ابن عمير بن عوف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بنى جمح فجلس إليهم فدعاهم إلى الله، وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم وهو يمرط- أى يمزق- ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا أرسله غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك، فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم: إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا على.

كانت رحلة محمد إلى ثقيف محنة بمعنى الكلمة، وقد تكاملت فصولها حين أغرى سادتها صبيانهم بقذف النبى بالحجارة، حتى أدميت قدماه الشريفتان، صلى الله عليه وسلم.